29/03/2020
✥ السِّنْكسَار ✥
✥ أحد أبينا البار يوحنّا السّلّميّ السينائي: إن يوحنا الذي وفي حياته كان مائتاً بالجسد، ولئن ظهر الآن ميتاً فاقد النسمة فهو حي إلى الأبد. وإذ ترك مؤلَّفه الذي به ارتقى إلى العلاء وصعد، أعلن به جلياً منهج الصعود العلوي لكل أحد.
هذا البار كان ابن ست عشرة سنة ذا حذاقة وذكاء، صعد إلى طور سينا وقدم ذاته لله ضحية شريفة. ثم بعد تسع عشرة سنة قام وأتى إلى ميدان الصمت والهدوء وبلغ إلى دير الجهاد بعيداً عن دير الطور الكبير خمس غلوات واسم المحل ثولاس فصرف فيه أربعين سنة ملبهاً على الدوام بعشق حار وبنار المحبة الإلهية. فكان يأكل كل ما يسمح لرتبته بدون مذمة إلا أن أكله كان قليلاً جداً وبدون أن يمتلئ بازدياد كاسراً بذلك على ما أرى قرن الصلف بحكمة كلية. لكن أي عقل يستطيع أن يدرك ينبوع دموعه ثم أنه كان يتناول من النوم ما به جوهر العقل يستطيع فقط أن يُحفظ سالماً من أضرار السهر وكان سعيه صلاة متواصلة على الدوام وعشقاً نحو الإله لا يُقدر. فبعد أن عاش بهذه الأعمال جميعها وألف السلم وبسط أقوالاً تعليمية مملوءة تهذيباً تنيح بالرب باستحقاق واجب في السنة الستمائة والثلاث والثمانين بعد أن ترك مؤلفات أخرى كثيرة. ثم أن تذكاره يكمل في الثلاثين من شهر آذار وقد يُعيد له في هذا النهار على ما أرى لسبب أنه من بدء الصيام اعتيد أن يُتلى سلم أقواله في الأديرة الشريفة. فبشفاعاته اللهم ارحمنا وخلصنا آمين.
ميلادُهُ: ولد يوحنا، كما يبدو, في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي.
ترهبُهُ: بعد أن بلغ يوحنا السادسة عشر، وتلقّى من العلم قدراً وتفتح ذهنه، مجّ مفاتن حياة البطلان، حبّاً بالله، وطلب جبل سيناء. حيثُ تكثرُ المناسك والأديرة الرهبانية.
ومنذ أن دخل حلبة الصراع الرهباني تخلّى عن كل ثقة بالنفس وسلك في أتضاع القلب مسلماً ذاته، في الجسد والروح، إلى شيخ اسمه مرتيريوس، وشرع بلا همّ، يرتقي سلم الفضائل. همُّه الأوحد أضحى أن يتخلّى عن مشيئته الخاصة.
تنسُّكُهُ: أمضى يوحنا، تسعة عشر عاماً بلا همّ، سالكاً بالطاعة، محفوظاً بصلاة أبيه الروحي، فلمَّا رقد معلّمه في الرب قرّر مواصلة ارتقائه في الوحدة، بعدما ترسّخ في الاتضاع، عبر العزلة الكاملة حتى لا يُوجَد محروماً ولا للحظة من عذوبة الله. حتى في هذا الأمر لم يعتمد على رأيه الذاتي بل على نصيحة شيخ آخر قدّيس، يُدعى جاورجيوس، أطلعه على نمط الحياة الخاصة بالهدوئيين. وقد اختار يوحنا, لذلك، موضعاً معزولاً يُعرف بـ "تولا" على بعد خمسة أميال من الدير الكبير.
لازم يوحنا المكان أربعين سنة مشتعلاً بحب الله المتنامي في قلبه أبداً لم يشغله خلالها شيء غير الصلاة المتواترة ويقظة القلب كمثل ملاك بالجسد. كان يحدث له أحياناً أن يُخطف في الروح وسط الأجواق الملائكية دون أن يعرف ما إذا كان، ساعتذاك، في الجسد أو خارج الجسد. وبحرّية بالغة كان يطلب من الله أن يلقّنه أسرار اللاهوت. ولما كان يخرج من أتون الصلاة كان يشعر بالنقاوة تارةً، كما لو خرج لتوّه من النار، وتارةً أخرى يلتمع ضياءً.
رئيساً لدير سيناء: لما أكمل قدّيسنا سنواته الأربعين مقيماً في البرّية كموسى آخر، اختير رئيساً لدير سيناء. فكان راعياً ممتازاً وطبيباً حاذقاً ومعلّماً حاذقاً يحمل في نفسه الكتاب الذي وضعه الله فيه حتى لم يعد في حاجة إلى كتب أخرى يُلقّن رهبانه بواسطتها علم العلوم وفنّ الفنون. صيت دير سيناء ذاع لنمط حياة رهبانه، الذي وضعه لهم رئيسهم الفاضل. هذا ما جعل من الدير منارةً لكل الرهبان والحجاج الذين راحوا يأتونه من كُلِّ حدبٍ وصوب.
مؤلفاته: لمَّا ذاع صيتُ الحياة الرهبانية ونمطها في دير سيناء، بفضل حكمة ودراية القديس يوحنا، كَتَبَ يوحنا رئيس دير رايثو، إلى قدّيسنا يطلب منه أن يكتب، بصورة واضحة ومنظمة ومقتضبة، ما هو ضروري لنوال مقتبلي الحياة الملائكية الخلاص. على هذا انبرى يوحنا يُحرِّر ألواح الناموس الروحي فكان ثمرة جهده كتاب "السلَّم إلى الله" الذي أضحى في الأدب النسكي، مرجعاً كلاسيكياً أساسياً في أصول الحياة الروحية، على مدى الأجيال.
رُقادُهُ: بعد سني الجهاد المضني، لبلوغ حياة القداسة، عيَّن يوحنا أخاه جاورجيوس رئيساً للدير بعد أن شعر بدنوِّ أجله. وهكذا أسلم روحه مودعاً إياها بين يدي الأب السماوي، لتنعمَ بالبركة والمحبَّة السماوية حيثُ السلام الذي لا بديل عنه، مهما علا شأن البديل. زمن رقاده غير معروف، لكنه على الأرجح ما بين القرن السادس والنصف الأول من القرن السابع للميلاد.
✥ أبونا الجليل في القدّيسين أفستاتيوس كيوس. ترهب أولاً ثم سيم كاهناً فكان، في رعايته لخراف المسيح، على محبة كبيرة لله. امتاز باتضاعه ورأفته وإحسانه وغيرته وإيمانه المتقد. سيم أسقفاً على كيوس البيثينية. دافع عن إكرام الإيقونات وعانى التنكيل والنفي والجوع والعطش والضرب والسجن.
✥ القدّيس مرقس العرطوزيّ وكيرلّس البعلبكيّ: أخبر عنه أنه كان شماس مدينة بعلبك، فلما أصدر أمر بدك هيكل فينوس في بعلبك انقض كيرللس على المكان بحماسة شديدة محرضاً الناس على هدّه فحقد عليه الوثنيون حقداً شديداً لكنهم كظموا غيظهم إلى وقت مؤات. فلما انقلبت الأيام وحلت ساعة الظلمة انتقم الوثنيون ممن أمكنهم الوصول إليهم راهبات وخدام الكنيسة. ففي عام 362م اقتحم الوثنيون ديراً للراهبات واستاقوهن إلى مكان هيكل فينوس وعرضوهن لدناءات وحقارات جمة. أما الشماس فجرّوه في الأوحال وضربوه ضرباً مميتاً وانتشلوا كبده وأكلوه كالحيوانات المفترسة. أما غزة دعسقلان في فلسطين فلقد أمسكوا فيها خداماً كنسيين ونساء مكرسات، نزعت أحشاؤهم وجعلوا مكانها شعيراً، ثم رموهم طعاماً للخنازير. كما فتح الوثنيون في سبسطيا صندوق بقايا السابق يوحنا المعمدان وذرّوا رماده في كل اتجاه.
✥ القدّيس البارّ ذياذوخوس أسقف فوتيكي (القرن 5م):
ولادتُهُ: يُظنّ أنّه ولد في مطلع القرن الخامس الميلادي.
أسقفيَّته: صار أسقفاً على الإيبرية القديمة بين العامين 451 و458م. فوتيكي، مركز أبرشيته، بلدة صغيرة في الناحية الغربية من اليونان. وقد جرى نفيه إلى قرطاجة في أواخر أيامه.
عملُهُ كأسقف: عمل على رعاية الأديرة الرهبانية، فكان أباً روحياً لشركةٍ رهبانية. كما عمل على نشر الوعي المسيحي وتقوية الإيمان. حَارب البدع والهرطقات. قاوم بدعة الطبيعة الواحدة، وجماعة "المصلّين". هؤلاء ظهرت بدعتهم في أواخر القرن الرابع الميلادي، في البلاد السورية عبر نسَّاك متجوّلين وانتشرت بسرعة في كل آسيا الصغرى. كانت تقول بأن المعمودية والأسرار لا طاقة لها على طرد الشياطين من النفس بالكامل. وأن الشيطان يبقى مساكناً للنعمة الإلهية في القلب. وإنما فقط بالصلاة يُطرد من القلب.
بعضُ مزاياه: تمتّع ذياذوخوس بثقافة وخبرة واسعتين، وكان على نقاوة في اللغة وسلامة في التعبير كبيرتين. تمتاز روحانيته بالاتّزان والاعتدال وسلامة الرأي.
مؤلفاته: من مؤلفاته المعروفة:
+ "مائة مقالة في المعرفة الروحية" نقلها إلى العربية رهبان دير مار جريس الحرف 1992م.
+ "وعظة في الصعود الإلهي".
+ كتاب عنوانه "الرؤيا" وهو حوار بين المؤلف والسابق المجيد يبدأ بمدح سيرة التوحّد ويسأل عن طبيعة الظهورات الإلهية وشكل معرفة الله والملائكة وغير ذلك.
رقادُهُ: زمنُ رقادِه غير معروفٍ بالتحديد. لكنه على الأرجح في مطلع القرن السادس الميلادي.
✥ القدّيسون الشّهداء الفرس يونان وباراخيسيوس ورفاقهما (+327م): رفاق يونان وباراشيسيوس المذكورون بالاسم هم زانيتاس ولعازر وماروثاس ونرسيس وإيليا ومارس وحبيب وسمبيط وسابا. كتب سيرتهم فارس أرمني اسمه إشعياء كان جندياً في جيش شابور الثاني وعاين بأمّ العين وسمع ما دار خلال استجواب الشهداء. دونك بعض ما ورد في الترجمة: في السنة الثامنة عشرة من حكم شابور الثاني حمل من كان لقبه ملك الملوك على المسيحيّين حملة شعواء فسالت الدماء غزيرة واندكت الكنائس والأديرة. فلما سمع يونان وباراشيسيوس، وكانا أخوين من مدينة بيت آسا، أن عدداً من المسيحيّين حُكم عليه بالموت في حُباهام، توجّها إلى هناك ليشدّدا الموقوفين ويخدماهم. تسعة من هؤلاء نالوا إكليل الاستشهاد. فلما نُفّذ فيهم حكم الموت جرى القبض على يونان وباراشيسيوس بتهمة تحريضهم على الموت. حاول القاضي، بليونة، حمل الأخوين على إعلان الطاعة لملك الملوك وعبادة الشمس والقمر والنار والماء. جوابهما كان أن المعقول، بالأحرى، أن يطيعا الملك الخالد للسماء والأرض ولا يطيعان أميراً تحت الموت. فاستاء المجوس لسماعهم هذا الكلام عن ملكهم. وبإيعاز منهم فُصل الشهيدان أحدهما عن الآخر وأُلقي باراشيسيوس في حفرة ضيّقة فيما أُبقي يونان موقوفاً لديهم عساهم يتمكّنون من إقناعه بالتضحية. ولكن لما رآه أمير المجوس ثابتاً لا يلين أمر به فطرحوه أرضاً على بطنه جاعلين عصا تحت صرّته وأخذوا في ضربه بالهراوات المعقّدة والقضبان. خلال ذلك كان قدّيس الله يصلي قائلاً: "أشكرك، إله إبراهيم فاهلني، أتوسل إليك، أن أٌقرِّب لديك ذبائح مقبولة. واحدة سألت الرب وإياها ألتمس. أما الشمس والقمر والنار والماء فأُنكرها وأؤمن وأعترف بالآب والابن والروح القدس". فأمر القاضي بإلقائه في بركة تجمّد ماؤها وأن تُربط قدمه بحبل. ومن ثم تحوّل إلى باراشيسيوس فاستحضره وزعم أمامه أن أخاه أذعن وضحّى. فقال الشهيد: ليس ممكناً أن يكون أخي قد أدى الإكرام الإلهي للنار وهي خلقة حقيرة! ثم استرسل فأخبر بعظمة الله الخالق. وقد كان باراشيسيوس على بلاغة في التعبير وقوّة في الخطابة أخّاذَين حتى اندهش المجوس لسماعه وقال أحدهم للآخر: لو أنه سُمح لهذا أن يتحدث في الناس لاجتذب العديدين. فلا يناسب، والحال هذه، أن يكون استجوابه إلا سرّاً وفي الليل. في تلك الأثناء حمّوا حديداً وجعلوه تحت أبطيه وأذابوا قصديراً وسكبوا في منخاريه وعينيه ثم ألقوه في السجن وعلّقوه من رجله. إثر ذلك أخرج المجوس يونان من البركة المتجمّدة وقالوا له: كيف حالك هذا الصباح؟ لا بد أن تكون قد أمضيت ليلة مزعجة؟ أجاب: كلا! منذ مولدي لا أذكر ليلة نعمت فيها بالهدوء والراحة كما نعمت هذه الليلة! فقالوا: صاحبك كفر! فأجابهم: أنا أعلم أنه كفر بإبليس وملائكته من زمان! فألحوا عليه أن احرص أن تُهلك نفسك منبوذاً من الله والناس. فأجاب: لو كنتم حكماء، كما تزعمون، لحكمتّم في أي الأمرين أصلح أن يُبذر الحبُّ أن يُخزن. فإن حياتنا حَبّ مبذور لينبت ثانية في العالم الآتي حين يتجدّد بالمسيح في النور الذي لا يخبو. قال المجوس: كتبكم أخرجت العديدين! فأجاب: أجل، أخرجتهم من متع الدنيا. فحين يكون خادم المسيح غارقاً في الآلام لأجل سيّده يكون سكران حباً وشوقاً فينسى حال هذه الحياة العابرة وينسى غناها وكراماتها. لا يعود يهمّه، الملوك والأمراء والأسياد والنبلاء بل معاينة الملك الحق الذي مُلكه بلا نهاية وسلطانه إلى الدهور. ومن جديد أمر القضاة بيونان فقُطعت أصابع يديه ورجليه وبُعثرت وسُلخ جلد رأسه وقطع لسانه وأُلقي في خلقين من الزفت المغلي فلم يتأذّ. ثم عُرّض للمكبس الخشبي ونُشر وأُلقي قطعة قطعة في خزّان جاف وأُمر الجند بحراسته ليل نهار لئلا يأتي مسيحيون ويسرقوه. ثم جاء دور باراشيسيوس فنُصح بعدم التفريط بجسده. فأجابهم: جسدي لم أصنعه ولن أدمّره. الله الذي صنعه هو يستعيده ويدينكم أنتم وملككم! فتفنّنوا في تعذيبه هو أيضاً وزرعوا عيدان القصب عميقاً في بدنه وجعلوا يقلّبونه على الأرض وكبسوا على بدنه وسكبوا الزفت المغلي في جوفه فأسلم الروح ونال كأخيه إكليل الشهادة. كانت شهادة الاثنين، يونان وباراشيسيوس، ومن معهما في كانون الأول من العام 327م. إلا أن ذكرهم في الشرق والغرب اعتُمد في 29 آذار.